عودة غزة- الانتصار على التهجير، والصمود في وجه التحديات

إن المتعمقين في تاريخ غزة، يُدركون تمام الإدراك مدى صلابتها وقدرتها على الصمود في وجه المحن. هذه المدينة التي لطالما أبهرت العالم أجمع بصمودها الأسطوري وبمواجهتها لجرائم الإبادة الجماعية الشنيعة على مدار ما يربو على خمسة عشر شهرًا، تحمل في طياتها خصوصيات فريدة تجعلها عصية على الاختراق، بل وتجعل منها مقبرة لكل من تسول له نفسه غزوها.
غزة، "تلك المدينة التي نقش اسمها في ذاكرة التاريخ، والتي تعود جذورها إلى نشأة الزمان. شهدت أهوالًا جمة في كل معركة، وكان لها في كل عصر قصة تروى، وفي كل مواجهة تضحيات جسام وشهداء أبرار. كم خضعت لغزاة، وكم استعصت على طغاة وجبابرة!"
غزة التي سرعان ما التأمت جراحها وعادت إلى ربوعها، رغم أن قنابل وصواريخ العدوان الصهيوني الغاشم قد حولتها إلى أنقاض ودمّرت ما يقارب 80% منها، ورغم أن حجم الدمار الذي حلّ بها يفوق بكثير ما شهدته المدن الألمانية خلال أتون الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من مخلفات العدوان الصهيوني البغيض، استطاع أهالي غزة بعودتهم المظفرة والجماعية، أن يُسقطوا مخطط التهجير القسري في استفتاء شعبي حاشد، أثار دهشة القريب والبعيد على حد سواء. ورغم أنك لن تجد واحدًا منهم لم يفقد عزيزًا، بل منهم من فقد جميع أفراد عائلته، إلا أنهم يواصلون المسير بكل فخر واعتزاز بالنصر المؤزر الذي حققته المقاومة الفلسطينية الباسلة، والتي أفشلت مخططات نتنياهو، الذي بالغ كثيرًا في وعوده وتجاوز كل الحدود حينما حدد أهداف حربه في القضاء على المقاومة، واستعادة الأسرى، ورؤية غزة خالية من حماس.
ورغم أن الاحتلال قد نفذ سياسة الأرض المحروقة بهدف بث الرعب والهلع في نفوس الأهالي لإجبارهم على النزوح من غزة باتجاه سيناء، إلا أن أهل غزة، بنسائهم وشبابهم وشيوخهم وأطفالهم، أفشلوا مخطط التهجير المشؤوم بصمودهم الأسطوري الذي لا يلين.
الفرحة والعودة إلى الديار المهدمة
هذه هي الحقيقة الساطعة، تتجلى في مشاهد الفرحة الغامرة والإحساس المتدفق بالكرامة والعزة، التي تغمر قلوب كل من وقف مع فلسطين ومع غزة في تصديها للعدوان الغاشم الذي كان يهدف إلى إبادة جماعية لكل من يتحرك على أرض غزة المباركة. وفي المقابل، كانت هذه المشاهد صادمة للمحتل الذي مني بفشل ذريع في تحقيق جميع أهدافه العسكرية الدنيئة، ولم يتمكن من إحراز أي نجاح يُذكر، سوى في ارتكاب المجازر المروعة ضد المدنيين العزل، الأمر الذي كان سببًا رئيسيًا في ملاحقة المجرم نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت أمام المحاكم الدولية، وطارد جنود جيشه في العديد من دول العالم.
إن المشاهد المؤثرة التي نقلتها شاشة الجزيرة للأهالي وهم يتخطون ركام المنازل المدمرة، ويشقون طريقهم بكل مشقة وعناء نحو بيوتهم التي حولتها الطائرات إلى قاع صفصف، وكأنهم عائدون إلى قصور منيفة، لهي دليل قاطع على أن هذا الشعب هو بحق طائر الفينيق الأسطوري الذي ينهض من الرماد أشد صلابة وقوة، ويصرع التدمير ويواجه جبروت القوة فيصمد وينتصر في نهاية المطاف.
والحق يقال، إن مشاهد العودة المبهجة والمنتصرة هي بمثابة ضربة قاصمة وموجعة للاحتلال، وربما تكون عليه أشد وطأة وأكثر مرارة من المواجهات العسكرية الضارية التي أعطت فيها المقاومة دروسًا قاسية سيحفظها التاريخ وستُقدم كدروس مستفادة في المعاهد والجامعات العسكرية.
التهجير القسري أو الطوعي سقط
بعودة الأهالي إلى غزة كطوفان بشري هادر، يكون مخطط التهجير قد سقط إلى الأبد، وانتهى معه حُلم الصهاينة الزائف في أن يكون القتل وارتكاب الجرائم البشعة سبيلًا لإرغام أصحاب الأرض على مغادرتها والتخلي عنها.
لا يمكن للشعب الفلسطيني أن ينسى المجازر المروعة التي ارتُكبت في عامي 1948 و1967، كما لا ينسى الممارسات الإجرامية المتواصلة من قتل وتدمير للمنازل، وفرض الحصار الشامل، والملاحقات المستمرة. كل هذه الممارسات يعلق عليها الاحتلال حلمًا خائبًا بطرد الفلسطينيين من أراضيهم وحقولهم. والحال أن وثيقة سياسية مسربة للكيان الغاصب تكشف عن مخططاته الخبيثة الرامية، وبكل الطرق والوسائل، إلى تهجير أهالي غزة الأبطال نحو سيناء كخيار وحيد ومزعوم لإنهاء كابوس أضحى يحمل تهديدًا وجوديًا للاحتلال، وخاصة بعد طوفان الأقصى المبارك الذي أنهى مرحلة طويلة كان يعتقد فيها العدو أنه محصن ومحميّ من أي خطر قد يأتيه من الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.
إن ما تمثله غزة اليوم بانتصارها الباهر وعودة أهلها الأبرار، وتحرير أسراها البواسل، ولعب أطفالها على رمال شواطئ غزة الذهبية، يؤكد للاحتلال وشركائه المتآمرين أن الأرض هي لأصحابها الشرعيين، وأن كل المؤامرات الدنيئة ستتكسر وتتحطم على صخرة صمود هذا الشعب العظيم، الذي رغم عظيم الألم والجراح، يستطيع أن يحول الأحزان إلى أفراح. شعب يقبل على الحياة بكل ما فيها من تحديات، ولا يهاب الموت دفاعًا عن أرضه وكرامته وعزته.
أهالي غزة.. صامدون هنا
ليست هذه المرة الأولى التي يطرح فيها الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، دونالد ترامب، فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن. ولعل الجديد في حديثه الذي أدلى به من على متن طائرته، هو أن الشعب الفلسطيني، وبعد أن وقف شامخًا في وجه عدوان همجي أطلسي، يعيش الآن لحظة حبور وعزة وكرامة.
فبعد طوفان الأقصى، يشهد العالم فصول طوفان جديد متجدد مع تحرير الأسرى من سجون الاحتلال الظالمة، وما تركه تعاطي المقاومة الفلسطينية المشرفة مع أسرى العدو الصهيوني بشكل انتصرت فيه للقيم والأخلاق الإنسانية الرفيعة، وهو ما ترك صدى إيجابيًا عميقًا لدى الأسرى الذين ودعوا المقاومين ووجوههم تنطق بالاحترام والتقدير لمقاومين التزموا بأخلاقيات الحروب حتى في خضم العدوان البربري الصهيوني الذي لم يستثنِ الأطفال والنساء والشيوخ.
فالمقاومة عاملتهم بأضعاف مضاعفة من الحقوق التي يحفظها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وها نحن اليوم نشهد مع العالم أجمع طوفانًا بشريًا متدفقًا، يضع آلامه وراء ظهره ويسرع عائدًا إلى دياره، رغم أنه يدرك تمام الإدراك أن الاحتلال لم يبقِ بيتًا قائمًا ولا مأوى آمنًا. كما أن القصف المتواصل ودوي الطائرات لم ينجحا أبدًا في حمله على ترك غزة، فهو كذلك لا يعير أدنى اهتمام لتصريح هنا وتصريح هناك. فأمام شعب الجبارين لا شيء مستحيلًا، يتكيف مع المعاناة ويصمد في وجه الحروب ويواصل رحلة التحرير، ويتشبث بحقوقه غير القابلة للتصرف أو التقادم.
ونحن اليوم نقف بين مشهدين متناقضين: مشاهد الفرح والنصر العظيم الذي تجسد وتأكد مع عودة الأهالي الأبطال على الأقدام لمعانقة ما تبقى من أُسرهم أو حتى لرفع الأنقاض عن شهدائهم الأبرار والترحم عليهم. فالأحياء باقون ومستمرون في نضالهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وفي الجانب الآخر، هناك مشهد جنود الاحتلال المدحورين الذين غادروا منطقة نتساريم مهزومين يجرون أذيال الخيبة، وهم يبكون بحرقة، بعد أن تجرعوا مرارة خسارة فادحة لن يطويها النسيان، وستبقى وصمة عار تلاحق جبين جنود جبناء فشلوا فشلًا ذريعًا في منازلة المقاومين الأشاوس.
فأهداف العدوان قد ارتدت على الغزاة أنفسهم، فلم ينفعهم الدعم الأميركي والغربي السخي ولا الصمت العربي الرسمي المخزي. فاليوم، حتى الذين قدموا الدعم والسلاح بسخاء للاحتلال، سيضطرون للتعبير عن استيائهم الشديد من الفشل الذريع الذي جناه نتنياهو، بعد أن ظهرت كتائب عزالدين القسام بقوتها وبأسها، وانتشرت شرطة حماس في شوارع غزة المدمرة، وشروع اتحاد بلديات غزة في فتح الطرق وإزاحة الأنقاض بما تيسر من آليات ومعدات لم تسلم هي الأخرى من قصف الطائرات الغادرة.
فالاحتلال، بعد عملية التخريب والتدمير الممنهجة التي خلفها وراءه في قطاع غزة، كان يهدف من ورائها إلى قتل الحياة وتدمير كل مظاهرها، وتحويل المكان إلى مقبرة تفوح منها رائحة الموت. لكن أصحاب الأرض متجذرون بعمق في تربتها وأكسبتهم نوائب الدهر المتتالية فن التغلب على الصعاب وقهر النكبات.
إن أهل غزة الذين دفعوا ثمنًا باهظًا لصمودهم الأسطوري، وقدموا ما يقرب من 50 ألف شهيد وحوالي 110 آلاف جريح ومئات الأسرى والمعتقلين، يدركون اليوم تمام الإدراك أنهم قد أحبطوا المؤامرة الخبيثة وأفشلوا العدوان الغاشم وأسقطوا مخطط التهجير المشؤوم، ويحق لهم كل الحق أن يفخروا بنصرهم المؤزر على الغزاة والمحتلين.
فلسطين لأهلها
وكما أعاد طوفان الأقصى للقضية الفلسطينية مكانتها وصدارتها، كذلك جلب طوفان العودة تعاطف الأحرار والشرفاء من شتى بقاع العالم. فتصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يدعو إلى تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، اعتبره السيناتور بيرني ساندرز يرقى إلى جريمة حرب مكتملة الأركان، كما لم تستسغه ألمانيا ولا أوروبا التي رحبت بعودة السكان إلى مدنهم وقراهم في القطاع.
أما مصر والأردن، الدولتان المعنيتان والمستهدفتان بمخطط التهجير، فقد أعلنتا رفضهما القاطع لهذه الفكرة الدنيئة، واعتبرتاها تهديدًا خطيرًا للاستقرار الإقليمي وتقويضًا للحلول العادلة للقضية الفلسطينية. كما رأت الرئاسة الفلسطينية في مخطط التهجير تجاوزًا سافرًا لكل الخطوط الحمراء. وعبرت فصائل المقاومة الفلسطينية عن رفضها القاطع والبات للتهجير، ودعت الجميع إلى التصدي الحازم والقوي للمشاريع والمخططات الرامية إلى تصفية قضية الشعب الفلسطيني العادلة.
في الختام:
إن ترامب، الذي وعد بإنهاء الحروب، لا يبدو أنه يحمل تصورًا وإستراتيجية واضحة لإدارة عالم تتجاذبه خلافات معقدة وشائكة. فليس بمثل هذه التصريحات الطائشة، كتصريحات ضم هذا البلد أو تهجير شعب من أرضه وموطنه، يمكن حل العقد الدولية والصراعات الطويلة والمعقدة. فأهل غزة عادوا بطوفانهم العارم الذي جرف معه مخطط التهجير المشؤوم، وردّدوا بصوت واحد مدوٍّ في مشهد سيظل محفورًا في الذاكرة إلى الأبد، أننا عائدون إلى بيوتنا وصامدون وثابتون في أرضنا ولن نرحل.